فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنّا بلوناهم} أي أصبنا أهل مكة ببلية وهي القحط بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله: «اللهم أشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» {كما بلوْنا} أي مثل ما بلونا فالكاف في محل نصب صفة مصدر مقدر وما مصدرية وقيل بمعنى الذي أي كالبلاء الذي بلوناه {أصحاب الجنة} المعروف خيرها عندهم كانت بأرض اليمن بالقرب منهم قريبا من صنعاء لرجل كان يؤدي حق الله تعالى منها فمات فصارت إلى ولده فمنعوا الناس خيرها وبخلوا بحق الله تعالى منها فكان ما ذكره الله تعالى وكانت على ما أخرج ابن المنذر وغيره عن ابن جرير بأرض في اليمن يقال لها صوران بينها وبين صنعاء ستة أميال وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس هم ناس من الحبشة كانت لأبيهم جنة وكان يطعم منها المساكين فمات فقال بنوه ان كان أبونا لاحمق حين يطعم المساكين فاقسموا على أن لا يطعموا منها مسكنيا.
وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال كانت لشيخ من بني اسرائيل وكان يمسك قوت سنته ويتصدق بالفضل وكان بنوه ينهونه عن الصدقة فلما مات أقسموا على منع المساكين وفي رواية أنها كانت لرجل صالح على فرسخين من صنعاء وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الاكداس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شيء كثير فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرمنها وقت الصباح خفية عن المساكين كما قال عز وجل: {إِذْ أقْسمُواْ} معمول لبلونا {ليصْرِمُنّها} ليقطعن من ثمارها بعد استوائها {مُّصْبِحِين} داخلين في الصباح وهذا حكاية لقسمهم لا على منطوقهم وإلا لقيل لنصمرنها بنون المتكلمين وكلا الأمرين جائز في مثله.
{ولا يسْتثْنُون} قيل أي ولا يقولون إن شاء الله تعالى وتسميته استثناء مع أنه شرط من حيث أن مؤاده مؤدى الاستثناء فإن قولك لأخرجن إن شاء الله تعالى ولا أخرج إلا أن يشاء الله تعالى بمعنى واحد وقال الإمام أصل الاستثناء من الثني وهو الكف والرد وفي التقييد بالشرط رد لانعقاد ذلك اليمين فاطلاقه عليه حقيقة وقيل أي ولا يتثنون عما هموا به من منع المساكين والظاهر على القولين عطفه على أقسموا فمقتضى الظاهر وما استثنوا وكأنه إنما عدل عنه إليه استحضارا للصورة لما فيها من نوع غرابة لأن اللائق في الحلف على ما يلزم منه ترك طاعة الاستثناء وفي الكشف هو حال أي غير مستثنين وفي العدول إلى المضارع نوع تعبير وتنبيه على مكان خطئهم وفيه رمز إلى ما ذكرنا وقيل المعنى ولا يستثنون حصة المساكين كما كان يخرج أبوهم وعليه هو معطوف على قوله تعالى: {ليصرمنها} [القلم: 17] ومقسم عليه أو على قوله سبحانه: {مصبحين} [القلم: 17] الحال وهو معنى لا غبار عليه.
{فطاف عليْها} أي أحاط نازلا على الجنة {طئِفٌ} أي بلاء محيط فهو صفة لمحذوف وقول قتادة طائف أي عذاب بيان لحاصل المعنى ونحوه قول ابن عباس أي أمر وعن الفراء تخصيص الطائف بالأمر الذي يأتي بالليل وكان ذلك على ما قال ابن جريج عنقا من نار خرج من وادي جنتهم وقيل الطائف هو جبريل عليه السلام اقتلعها وطاف بها حول البلد ثم وضعها قرب مكة حيث مدينة الطائف اليوم ولذلك سميت بالطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الماء والشجر والأعناب غيرها ولا يصح هذا عندي كالقول بأن الطائف المدينة المذكورة كانت بالشام فنقلها الله تعالى إلى الحجاز بدعوة إبراهيم عليه السلام وكذا القول بأنها طافت على الماء في الطوفان ولو قيل كل ذلك على ظاهره حديث خرافة لا يعد حديث خرافة وقرأ النخعي {طيف} {مِن ربّك} مبتدئ من جهته عز وجل {وهُمْ نائِمُون} في موضع الحال والمراد أتاها ليلا كما روي عن قتادة وقيل المراد وهم غافلون غفلة تامة عما جرت به المقادير والأول أظهر من جهة السباق واللحاق.
{فأصْبحتْ كالصريم} كالبستان الذي صرمت ثماره بحيث لم يبق فيها شيء ففعيل بمعنى مفعول وقال ابن عباس كالرماد الأسود وهو بهذا المعنى لغة خزيمة وعنه أيضا {الصريم} رملة باليمن معروفة لا تنبت شيئا وقال مؤرج كالرملة انصرمت من معظم الرمل وهي لا تنبت شيئا ينفع وقال منذر والفراء وجماعة {الصريم} الليل والمراد أصبحت محرّقة تشبه الليل في السواد وقال الثوري كالصبح من حيث أبيضت كالزرع المحصود وقال بعضهم يسمى كل من الليل والنهار صريما لانصرام كل عن صاحبه وانقطاعه عنه.
{فتنادوْاْ} نادى بعضهم بعضا {مُّصْبِحِين} لقسمهم السابق.
{أنِ اغدوا} أي أي خرجوا على أن أن تفسيرية واغدوا بمعنى أخرجوا أو بأن اغدوا على أن أن مصدرية وقبلهما حرف جر مقدر وهي يجوز أن توصل بالأمر على الأصح {على حرْثِكُمْ} أي بستانكم {إِن كُنتُمْ صارمين} أي قاصدين للصرم وقطع الثمار فاغدوا وقيل يحتمل أن يكون المراد ان كنتم أهل عزم وإقدام على رأيكم من قولهم سيف صارم وليس بذاك وظاهر كلام جار الله إن غدا بمعنى بكر يتعدى بإلى وعدى هاهنا بعلى لتضمين الغد ومعنى الإقبال كما في قولهم يغدي عليه بالجفنة ويراح أي فاقبلوا على حرثكم باكرين ويجوز أن يكون من غدا عليه إذا غار بأن يكون قد شبه غدوهم لقطع الثمار بغدو الجيش على شيء لأن معنى الاستعلاء والاستيلاء موجود فيه وهو الصرم والقطع ويكون هناك استعارة تبعية وجوز أن تعتبر الاستعارة تمثيلية وقال أبو حيان الذي في حفظي ان غدا يتعدى يعلى كما في قوله:
وقد غدو على ثبة كرام ** نشاوى واجدين لما نشاء

وكذا بكر مرادفه كما في قوله:
بكرت عليهم غدوة فرأيته ** قعودا لديه بالصريم عواذله

{فانطلقوا وهُمْ يتخافتون} أي يتشاورون فيما بينهم بطريق المخافتة وخفي بفتح الفاء وخفت وخفد ثلاثتها في معنى الكتم ومنه الخفدود للخفاش والخفود للناقة التي تلقى ولدها قبل أن يستبين خلقه.
{أن لاّ يدْخُلنّها اليوم} أي الجنة {عليْكُمْ مّسْكِينٌ} ان مفسرة لما في التخافت من معنى القول أو مصدرية والتقدير بأن ويؤيد الأول قراءة عبد الله وابن أبي عبلة بإسقاطها وعليه قيل هو بتقدير القول وقيل العامل فيه يتخافتون لتضمنه معنى القول وهو المذهب الكوفي فيه وفي أمثاله وأيا ما كان فالمراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه منه كقولهم لا أرينك ههنا.
{وغدوْاْ على حرْدٍ} أي منع كما قال أبو عبيد وغيره من قولهم حاردت الابل إذا قلت ألبانها وحاردت السنة قل مطرها وخيرها والجار متعلق بقوله تعالى: {قادرين} قدم للحصر ورعاية الفواصل أي وغدوا قادرين على منع لا غير والمعنى أنهم عزموا على منع المساكين وطلبوا حرمانهم أو نكدهم وهم قادرون على نفعهم فغدوا بحال لا يقدرون فيها إلا على المنع والحرمان وذلك أنهم طلبوا حرمان المساكين فتعجلوا الحرمان أو غدوا على محاردة جنتهم وذهاب خيرها بدل كونهم قادرين على اصابة خيرها ومنافعها أي غدوا حاصلين على حرمان أنفسهم مكان كونهم قادرين على الانتفاع والحصر على الأول حقيقي وعلى هذا إضافي بالنسبة إلى انتفاعهم من جنتهم والحرمان عليه خاص بهم وجوز أن يكون على حرد متعلقا بغدوا والمراد بالحرد حرد الجنة جيء به مشاكلة للحرث كأنه لما قالوا اغدوا على حرثكم وقد خبثت نيتهم عاقبهم الله تعالى بأن حاردت جنتهم وحرموا خيرها فلم يغدوا على حرث وإنما غدوا على حرد وقادرين من عكس الكلام للتهكم أي قادرين على ما عزموا عليه من الصرام وحرمان المساكين وقيل الحرد الحرد بفتح الراء وقد قرئ به وهو بمعنى الغيظ والغضب كما قال أبو نصر أحمد بن حاتم صاحب الأصمعي وأنشد:
إذا جياد الخيل جاءت تردى ** مملوءة من غضب وحرد

أي لم يقدروا إلا على إغضاب بعضهم لبعض كقوله تعالى فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون وروي هذا عن سفيان والسدى والحصر حقيقي ادعائي أو إضافي وقيل بمعنى القصد والسرعة وأنشد:
أقبل سيل جاء من أمر الله ** يحرد حرد الجنة المغلة

أي غدوا قاصدين إلى جنتهم بسرعة قادرين عند أنفسهم على صرامها وروي هذا عن ابن عباس فـ: {على حرد} ظرف مستقر حال من ضمير {غدوا} و{قادرين} حال أيضا إلا أنها حال مقدرة على ما قيل وقيل حال حقيقية بناء على القيد بعند أنفسهم وإنما قيد به لأن ثمار جنتهم هالكة فلا قدرة لهم على صرامها وقد فنيت وقال الأزهري حرد اسم قريتهم وفي رواية عن السدى اسم جنتهم ولا أظن ذلك مرادا وقيل الحرد الانفراد يقال حرد عن قومه إذا تنحى عنهم ونزل منفردا وكوكب حرود معتزل عن الكواكب والمعنى وغدوا إلى جنتهم منفردين عن المساكين ليس أحد منهم معهم قادرين على صرامها وهو من باب التهكم وقيل قادرين على هذا القول من التقدير بمعنى التضييق أي مضيقين على المساكين إذ حرموهم ما كان أبوهم ينيلهم منها وهو حال مقدرة.
{فلمّا رأوْها} أول ما وقع نظرهم عليها {قالواْ إِنّا لضالُّون} طريق جنتنا وما هي بها قاله قتادة وقيل لضالون عن الصواب في غدونا على نية منع المساكين وليس بذاك.
{بلْ نحْنُ محْرُومُون} قالوه بعدما تأملوا ووقفوا على حقيقة الأمر مضربين عن قولهم الأول أي لسنا ضالين بل نحن محرمون حرمنا خيرها بجنايتنا على أنفسنا. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِنّا بلوْناهُمْ كما بلوْنا أصْحاب الْجنّةِ إِذْ أقْسمُوا ليصْرِمُنّها مُصْبِحِين (17)}
ضمير الغائيبن في قوله: {بلوناهم} يعود إلى المكذبين في قوله: {فلا تطع المكذبين} [القلم: 8].
والجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا دعت إليه مناسبة قوله: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه ءاياتُنا قال أساطير الأولين} [القلم: 1415] فإن الازدهاء والغرور بسعة الرزق المفضيين إلى الاستخفاف بدعوة الحق وإهمال النظر في كنهها ودلائلها قد أوقعا من قديم الزمان أصحابهما في بطر النعمة وإهمال الشكر فجرّ ذلك عليهم شر العواقب، فضرب الله للمشركين مثلا بحال أصحاب هذه الجنة لعلهم يستفيقون من غفلتهم وغرورهم.
كما ضرب المثل بقريب منه في سورة الكهف، وضرب مثلا بقارون في سورة القصص.
والبلْوى حقيقتها: الاختبار وهي هنا تمثيل بحال المبتلى في إرخاء الحبل له بالنعمة ليشكر أو يكفر، فالبلوى المذكورة هنا بلوى بالخير فإن الله أمدّ أهل مكة بنعمة الأمن، ونعمة الرزق، وجعل الرزق يأتيهم من كل جهة، ويسر لهم سبل التجارة في الآفاق بنعمة الإِيلاف برحلة الشتاء ورحلة الصيف، فلما أكمل لهم النعمة بإرسال رسول منهم ليكمل لهم صلاح أحوالهم ويهديهم إلى ما فيه النعيم الدائم فدعاهم وذكرهم بنعم الله أعرضوا وطغوا ولم يتوجهوا إلى النظر في النعم السالفة ولا في النعمة الكاملة التي أكملتْ لهم النعم.
ووجه المشابهة بين حالهم وحال أصحاب الجنّة المذكورة هنا هو الإِعراض عن طلب مرضاة الله وعن شكر نعمته.
وهذا التمثيل تعريض بالتهديد بأن يلحقهم ما لحق أصحاب الجنة من البؤس بعد النعيم والقحط بعد الخصب، وإن اختلف السبب في نوعه فقد اتحد جنسه.
وقد حصل ذلك بعد سنين إذْ أخذهم الله بسبع سنين بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وهذه القصة المضروب بها المثل قصة معروفة بينهم وهي أنه كانت ببلد يقال له: ضروان (بضاد معجمة وراء وواو مفتوحات وألف ونون) من بلاد اليمن بقرب صنعاء.
وقيل: ضروان اسم هذه الجنة، وكانت جنّة عظيمة غرسها رجل من أهل الصلاح والإيمان من أهل الكتاب قاله ابن عباس.
ولم يبين من أي أهل الكتاب هو: أمِن اليهود أم من النصارى؟ فقيل: كان يهوديا، أي لأن أهل اليمن كانوا تديّنوا باليهودية من عهد بلقيس كما قيل أو بعدها بِهجرة بعض جنود سليمان، وكانت زكاة الثمار من شريعة التوراة كما في الإِصحاح السادس والعشرين من سفر اللاويين.
وقال بعض المفسرين: كان أصحابُ هذه الجنة بعد عيسى بقليل، أي قبل انتشار النصرانية في اليمن لأنها ما دخلت اليمن إلاّ بعد دخول الأحباش إلى اليمن في قصة القليس وكان ذلك زمان عام الفيل.
وعن عكرمة: كانوا من الحبشة كانت لأبيهم جنة وجعل في ثمرها حقا للمساكين وكان يدخل معه المساكين ليأخذوا من ثمارها فكان يعيش منها اليتامى والأرامل والمساكين وكان له ثلاثة بنين، فلما توفي صاحب الجنة وصارت لأولاده أصبحوا ذوي ثروة وكانوا أشحة أو كان بعضهم شحيحا وبعضهم دونه فتمالؤوا على حرمان اليتامى والمساكين والأرامل وقالوا: لنغدون إلى الجنة في سدفة من الليل قبل انبلاج الصباح مثل وقت خروج الناس إلى جناتهم للجذاذ فلنجذنها قبل أن يأتي المساكين.
فبيتوا ذلك وأقسموا أيمانا على ذلك، ولعلهم أقسموا ليُلزموا أنفسهم بتنفيذ ما تداعوا إليه.
وهذا يقتضي أن بعضهم كان مترددا في موافقتهم على ما عزموا عليه وأنهم ألجموه بالقسم وهذا الذي يلتئم مع قوله تعالى: {قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون} [القلم: 28]، قيل كان يقول لهم: اتقوا الله واعدلوا عن خبث نيتكم من منع المساكين، وذكرهم انتقام الله من المجرمين، أي فغلبوه ومضوا لما عزموا عليه، ولعلهم أقسموا على أن يفعلوا وأقسموا عليه أن يفعل معهم ذلك فأقسم معهم أو وافقهم على ما أقسموا عليه، ولهذا الاعتبار أسند القسم إلى جميع أصحاب الجنة.
فلما جاءوا جنتهم وجدوها مسودّة قد أصابها ما يشبه الاحتراق فلما رأوها بتلك الحالة علموا أن ذلك أصابهم دون غيرهم لعزمهم على قطع ما كان ينتفع به الضعفاء من قومهم وأنابوا إلى الله رجاء أن يعطيهم خيرا منها.
قيل: كانت هذه الجنة من أعناب.
والصرم: قطع الثمرة وجذاذها.
ومعنى {مُصبحين} داخلين في الصباح أي في أوائل الفجر.
ومعنى {لا يستثنون}: أنهم لا يستثنون من الثمرة شيئا للمساكين، أي أقسموا ليصْرِمُنّ جميع الثمر ولا يتركون منه شيئا.
وهذا التعميم مستفاد مما في الصرم من معنى الخزن والانتفاع بالثمرة وإلاّ فإن الصرم لا ينافي إعطاء شيء من المجذوذ لمن يريدون.
وأُجمل ذلك اعتمادا على ما هو معلوم للسامعين من تفصيل هذه القصة على عادة القرآن في إيجاز حكاية القصص بالاقتصار على موضع العبرة منها.
وقيل معناه: {لا يستثنون} لإِيمانهم بأن يقولوا إن شاء الله كما قال تعالى: {ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غدا إلاّ أن يشاء الله} [الكهف: 2324].
ووجه تسميته استثناء أن أصل صيغته فيها حرف الاستثناء وهو (إلاّ)، فإذا اقتصر أحد على (إن شاء الله) دون حرف الاستثناء أطلق على قوله ذلك استثناءٌ لأنه على تقدير: إلا أن يشاء الله.
على أنه لما كان الشرط يؤول إلى معنى الاستثناء أطلق عليه استثناء نظرا إلى المعنى وإلى مادة اشتقاق الاستثناء.
وعلى هذا التفسير يكون قوله: {ولا يستثنون} من قبيل الإِدماج، أي لِمبلغ غرورهم بقوة أنفسهم صاروا إذا عزموا على فعل شيء لا يتوقعون له عائقا، والجملة في موضع الحال، والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالتهم العجيبة من بُخلِهم على الفقراء والأيتام.
وعلى الروايات كلها يعلم أن أهل هذه الجنة لم يكونوا كفارا، فوجه الشبه بينهم وبين المشركين المضروب لهم هذا المثل هو بطر النعمة والاغترار بالقوة.
وقوله: {فطاف عليها طائف من ربّك} الطواف: المشي حول شيء من كل جوانبه يُقال: طاف بالكعبة، وأريد به هنا تمثيل حالة الإِصابة لشيء كله بحال من يطوف بمكان، قال تعالى: {إذا مسهم طائف من الشيطان} الآية [الأعراف: 201].
وعُدّي (طاف) بحرف (على) لتضمينه معنى: تسلط أو نزل.
ولم يعين جنس الطائف لظهور أنه من جنس ما يصيب الجنات من الهلاك، ولا يتعلق غرض بتعيين نوعه لأن العبرة في الحاصل به، فإسناد فعل (طاف) إلى {طائف} بمنزلة إسناد الفعل المبني للمجهول كأنه قيل: فطِيف عليها وهم نائمون.
وعن الفراء: أن الطائف لا يكون إلاّ بالليل، يعني ومنه سمي الخيال الذي يراه النائم في نومه طيفا.
قيل هو مشتق من الطائفة وهي الجزء من الليل، وفي هذا نظر.
فقوله: {وهم نائمون} تقييد لوقت الطائف على التفسير الأول، وهو تأكيد لمعنى {طائف} على تفسير الفراء، وفائدته تصوير الحالة.
وتنوين {طائف} للتعظيم، أي أمر عظيم وقد بينه بقوله: {فأصبحت كالصريم} فهو طائف سوء، قيل: أصابها عنق من نار فاحترقت.
و {من ربّك} أي جائيا من قِبل ربّك، ف {مِن} للابتداء يعني: أنه عذاب أرسل إليهم عقابا لهم على عدم شكر النعمة.
وعُجل العقاب لهم قبل التلبس بمنع الصدقة لأن عزمهم على المنع وتقاسمهم عليه حقق أنهم مانعون صدقاتهم فكانوا مانعين.
ويؤخذ من الآية موعظة للذين لا يواسون بأموالهم.
وإذْ كان عقاب أصحاب هذه الجنة دنيويا لم يكن في الآية ما يدل على أن أصحاب الجنة منعوا صدقة واجبة.
والصريم قيل: هو الليل، والصريم من أسماء الليل ومن أسماء النهار لأن كل واحد منهما ينصرم عن الآخر كما سمي كل من الليل والنهار ملْوا فيقال: الملواننِ، وعلى هذا ففي الجمع بين (أصبحتْ) و(الصريم) محسن الطباق.
وقيل الصريم: الرماد الأسود بلغة جذيمة أو خزيمة.
وقيل الصريم: اسم رملة معروفة باليمن لا تُنبت شيئا.
وإيثار كلمة الصريم هنا لكثرة معانيها وصلاحية جميع تلك المعاني لأن تراد في الآية.
وبين (يصرِمُنّها) و(الصريم) الجناس.
وفاء {فتنادوا} للتفريع على {أقسموا ليصْرِمُنّها مُصْبِحين} أي فلما أصبحوا تنادوا لإنجاز ما بيّتوا عليه أمرهم.
والتنادي: أي ينادي بعضُهم بعضا وهو مشعر بالتحريض على الغدوّ إلى جنتهم مبكرين.
والغدوّ: الخروج ومغادرة المكان في غُدوة النهار، أي أوله.
وليس قوله: {إن كنتم صارمين} بشرط تعليق ولكنه مستعمل في الاستبطاء فكأنهم لإبطاء بعضهم في الغُدوِّ قد عدل عن الجذاذ ذلك اليوم.
ومنه قول عبد الله بن عُمر للحجاج عند زوال عرفة يحرضه على التهجير بالرواح إلى الموقف الرواح إن كنت تُريد السنة.
ونظير ذلك كثير في الكلام.
و {على} من قوله: {على حرثكم} مستعملة في تمكن الوصول إليه كأنه قيل: اغدوا تكونوا على حرثكم، أي مستقرين عليه.
ويجوز أن يضمن فعل الغدوّ معنى الإِقبال كما يقال: يُغدى عليه بالجفْنة ويُراح.
قال الطيبي: ومثله قيل في حق المطلب تغدُو دِرّتُه (التي يضرب بها) على السفهاء، وجفنته على الحُلماء.
والحرث: شق الأرض بحديدة ونحوها ليوضع فيها الزريعة أو الشجر وليزال منها العشب.
ويطلق الحرث على الجنة لأنهم يتعاهدونها بالحرث لإِصلاح شجرها، وهو المارد هنا كقوله تعالى: {وحرثٌ حِجْر} في سورة الأنعام (138)، وتقدم في قوله: {والأنعاممِ والحرثِ} في سورة آل عمران (14).
والتخافت: تفاعل من خفت إذا أسرّ الكلام.
و{أن لا يدخلنّها اليوم عليكم مسكين} تفسير لفعل {يتخافتون} و{أن} تفسيرية لأن التخافت فيه معنى القول دون حروفه.
وتأكيد فعل النهي بنون التوكيد لزيادة تحقيق ما تقاسموا عليه.
وأسند إلى {مسكين} فعل النهي عن الدخول والمراد نهي بعضهم بعضا عن دخول المسكين إلى جنتهم، أي لا يترك أحد مسكينا يدخلها.
وهذا من قبيل الكناية وهو كثير في استعمال النهي كقولهم: لا أعرفنّك تفْعلُ كذا.
وجملة {وغدوا على حردٍ قادرين} في موضع الحال بتقدير (قد)، أي انطلقوا في حال كونهم غادين قادرين على حرد.
وذُكِر فعل {غدوا} في جملة الحال لقصد التعجيب من ذلك الغدوِّ النحس كقول امرئ القيس:
وبات وباتت له ليلة ** كليلة ذي العائر الأرمد

بعد قوله:
تطاول ليلك بالأثمُد ** وبات الخلي ولم ترْقُد

يخاطب نفسه على طريقة فيها التفات أو التفاتان.
والحرد: يطلق على المنع وعلى القصد القوي، أي السرعة وعلى الغضب.
وفي إيثار كلمة {حرْد} في الآية نكتة من نكت الإِعجاز المتعلق بشرف اللفظ ورشاقته من حيث المعنى، ومن جهة تعلق المجرور به بما يناسب كل معنى من معانيه، أي بأن يتعلق {على حرد} بـ {قادرين}، أو بقوله: {غدوا} فإذا علق بـ {قادرين} فتقديم المتعلِّق يفيد تخصيصا، أي قادرين على المنع، أي منع الخير أو منع ثمر جنتهم غير قادرين على النفع.
والتعبير بقادرين على حرد دون أن يقول: وغدوا حاردين تهكم لأن شأن فعل القدرة أن يذكر في الأفعال التي يشق على الناس إتيانها قال تعالى: {لا يقدرون على شيء مما كسبوا} [البقرة: 264] وقال: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4] فقوله: {على حرد قادرين} على هذا الاحتمال من باب قولهم: فلان لا يملك إلاّ الحِرمان أو لا يقدر إلاّ على الخيبة.
وإذا حمل الحرد على معنى السرعة والقصد كان {على حرد} متعلقا بـ {غدوا} مبينا لنوع الغُدو، أي غدوا غدُوّ سرعة واعتناء، فتكون {على} بمعنى باء المصاحبة، والمعنى: غدوا بسرعة ونشاط، ويكون {قادرين} حالا من ضمير {غدوا} حالا مقدّرة، أي مقدرين أنهم قادرون على تحقيق ما أرادوا.
وفي الكلام تعريض بأنهم خابوا، دل عليه قوله بعده {فلما رأوها قالوا إنا لضالون} [القلم: 26]، وقوله قبله {فطاف عليها طائف من ربّك وهم نائمون}.
وإذا أريد بالحرد الغضب والحنق فإنه يقال: حردٌ بالتحريك وحرْدٌ بسكون الراء ويتعلق المجرور بـ {قادرين} وتقديمه للحصر، أي غدوا لا قدرة لهم إلاّ على الحنق والغضب على المساكين لأنهم يقتحمون عليهم جنتهم كل يوم فتحيلوا عليهم بالتبكير إلى جذاذها، أي لم يقدروا إلاّ على الغضب والحنق ولم يقدروا على ما أرادوه من اجتناء ثمر الجنة.
وعن السدي: أن {حرد} اسم قريتهم، أي جنتهم.
وأحسب أنه تفسير ملفق وكأنّ صاحبه تصيده من فعلي {اغْدُوا وغدوا}.
{فلمّا رأوْها قالوا إِنّا لضالُّون (26)}
أي استفاقوا من غفلتهم ورجعوا على أنفسهم باللائمة على بطرهم وإهمال شكر النعمة التي سيقت إليهم، وعلموا أنهم أُخذوا بسبب ذلك، قال تعالى: {وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون} [الأعراف: 168].
ومن حِكم الشيخ ابن عطاء الله الإسكندري من لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعِقالها.
وأفادت (لمّا) اقتران جوابها بشرطها بالفور والبداهة.
والمقصود من هذا التعريضُ للمشركين بأن يكون حالهم في تدارك أمرهم وسرعة إنابتهم كحال أصحاب هذه الجنة إذ بادروا بالندم وسألوا الله عوض خير.
وإسناد هذه المقالة إلى ضمير {أصحاب الجنة} [القلم: 17] يقتضي أنهم قالوه جميعا، أي اتفقوا على إدراك سبب ما أصابهم.
ومعنى {إنا لضالون} أنهم علموا أنهم كانوا في ضلال أي عن طريق الشكر، أي كانوا غير مهتدين وهو كناية عن كون ما أصابهم عقابا على إهمال الشكر، فالضلال مجاز.
وأكّدوا الكلام لتنزيل أنفسهم منزلة من يشك في أنهم ضالون طريق الخير لقرب عهدهم بالغفلة عن ضلالهم ففيه إيذان بالتحسر والتندم.
و {بل نحن محرومون} إضراب للانتقال إلى ما هو أهم بالنظر لحال تبييتهم إذ بيتوا حرمان المساكين من فضول ثمرتهم فكانوا هم المحرومين من جميع الثمار، فالحرمان الأعظم قد اختص بهم إذ ليس حرمان المساكين بشيء في جانب حرمانهم.
والكلام يفيد ذلك إما بطريق تقديم المسند إليه بأن أُتي به ضميرا بارزا مع أن مقتضى الظاهر أن يكون ضميرا مستترا في اسم المفعول مقدّرا مؤخرا عنه لأنه لا يتصور إلاّ بعد سماع متحمِّله.
فلما أبرز الضمير وقُدم كان تقديمه مؤذنا بمعنى الاختصاص، أي القصر، وهو قصر إضافي، وهذا من مستتبعات التراكيب والتعويل على القرائن.
ويحتمل أن يكون الضلال حقيقيا، أي ضلال طريق الجنة، أي قالوا: إنا أخطأنا الطريق في السير إلى جنتنا لأنهم توهموا أنهم شاهدوا جنة أخرى غير جنتهم التي عهدوها، قالوا ذلك تحيرا في أمرهم.
ويكون الإِضراب إبطاليا، أي أبطلوا أن يكونوا ضلّوا طريق جنتهم، وأثبتوا أنهم محرومون من خير جنتهم فيكون المعنى أنها هي جنتهم ولكنها هلكت فحرموا خيراتها بأن أتلفها الله. اهـ.